المقالات والبحوث
ملامح منهج ابن تيمية في كتابه:
"قاعدة فيما يفطر الصائم وما لا يفطره"
د.عادل بن سعد الحارثي
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الطائف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله … أما بعد
فهذه ملامح هادية إلى منهج ابن تيمية رحمه الله (ت:728) في رسالته الموسومة بـ “قاعدة فيما يفطر الصائم وما لا يفطره”، أشار بها عليّ من إشارته وإفادته غُنم، أدام الله نفعه وبارك في علمه وعمله، فجاءت منتظمة في أربع فقرات؛ وهي إجمالًا: تعريفٌ بموضوع القاعدة، وأهميتها، وبيان لمجمل مضمونها، ومنهج الشيخ فيها.
أولًا: موضوع القاعدة.
موضوع القاعدة فقهي كما هو ظاهر، وهي مندرجة في مسائل كتاب الصيام من كتب الفقه، وأخصُّ أبوابه، وهو “باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة”، وقد كثر إقراء المعاصرين لها وتعليقهم عليها، ومن أشهرها تعليق الشيخ ابن عثيمين (ت:1421)، وطبعته مؤسسته عام 1428.
وقد طبعت هذه القاعدة أوّل مرةٍ في مطبعة المنار، ونشرت في مجلة المنار عام 1349 بعناية السيد محمد رشيد رضا، بعنوان: “رسالة في حقيقة الصيام وما يفطر الصائم بالنص والإجماع وما ألحق به من الرأي والاجتهاد”، ثم طبعها المكتب الإسلامي مفردة سنة 1380 بتحقيق الشيخ زهير الشاويش بعنوان: “حقيقة الصيام”، ثم في مجموع فتاوى الشيخ المجلد الخامس والعشرين، من ص (219 إلى 258)، وقد اشتهرت بهذا العنوان، والذي ذكره ابن رشيّق (ت:749) وابن عبدالهادي (ت:744) أن للشيخ قاعدة في مفطرات الصائم، وجاء عنوانها صريحًا بخط ناسخها أبي عبدالله بن رشيق: “قاعدة فيما يفطر الصائم وما لا يفطره”، وهو الذي طبعت به أخيرًا بتحقيق الأخ الشيخ عبدالله آل غيهب، وهو أمثل تحقيق لها؛ لاعتماده على أربع نسخ خطية، واستدراكه ما وقع في طبعاتها السابقة من سقطٍ أو تحريف([1]).
ثانيًا: أهمية القاعدة.
هذه القاعدة من المؤلفات المهمة في بابها، وتبرز أهميتها في النقاط التالية:
- جلالة مؤلفها، ومكانته في الفقه والاجتهاد في أبوابه.
- صلتها بأخصِّ مسائل الصيام، وهو باب المفطرات، وإذا نظرنا إلى مسائل كتاب الصيام التي يُسأل عنها غالبًا، فيمكن ردّها إلى نوعين في الجملة:
ما يتعلق بعامة المسلمين، وما يتعلق بأفرادهم، فمن الأول المسائل المتعلقة بدخول الشهر وخروجه، ومن الثاني ما يفسد الصوم، وقد كثرت كتابات المعاصرين في هذين المجالين، وأهمهما الثاني، وأخص ما يُعتنى فيه بالمسائل المشهورة، كالتي تناولها الشيخ في القاعدة.
- أهمية اختيارات الشيخ، وأثرها في مسائل المفطرات المستجدة، ومما يُذكر هنا أن الاهتمام باختيارات الشيخ بدأ في حياته، فقد التمس منه تلميذه سراجُ الدينِ أبو حفص البزَّار (ت:749) تأليفَ نصٍّ في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء، فقال له ما معناه: “الفروع أمرها قريب، فإذا قلّد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله ما لم يتَيَقَّن خطأه”([2]).
ولا يُعلم اهتمام باختيارات عالمٍ كما حصل من عناية باختيارات الشيخ، بدءًا بإفرادها في مصنفات مستقلة؛ ككتاب الأخبار العلمية في الاختيارات الفقهية للبعلي (ت:803)، وذِكْرِ تلامذته لها في كتبهم كابن مفلح (ت:763) في الفروع، وجمعها ودراستها عند المعاصرين، كمشروع اختيارات الشيخ، وجمع اختياراته الفقهية لدى تلامذته.
وأهمية هذه القاعدة لا تقتصر على النتائج التي انتهى إليها الشيخ، واعتبار رأيه فيها حاكمًا على اجتهاد غيره من الفقهاء، وخاصة أنه خالف الجمهور في جملة من المسائل، وإنما في الاستفادة من طريقته في دراسة المسائل والاستدلال لها ومناقشة أدلتها؛ فبمثل هذا تُبنى الملكات، وتتسع مدارك النظر لدى المتفقه.
ويمكن أن يقال إن هذه القاعدة ترجمة لقول الشيخ: “لا بد أن يكون مع الإنسان أصولٌ كلية يردُّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيات، وجهلٍ وظلمٍ في الكليات، فيتولُّد فسادٌ عظيم”([3]).
وهذا وإن كان متحقّقًا في مسائل أصول الدين إلا أنه يستأنس به في طريقة البحث الفقهي، والاطراد فيه، وبنائه على الأصول والقواعد، كما صنع الشيخ في هذه القاعدة وغيرها من كتبه.
ثالثًا: بيان لمجمل مضمون القاعدة.
ذكر الأستاذ عبد الله الهدلق كلمةً مهمة عن تراث ابن تيمية، وهي قوله: “كثيرٌ من تراث شيخ الإسلام لا يُبتدأ به؛ وإنما يُنتهى إليه، فالعلوم يأخذ بعضها بحُجزِ بعض، فهي كدرجات السلم، كل واحدة تسلم إلى أختها، ولعلّ مما أضرّ ببعض طلبة العلم، أن أحدهم يعلق بسمعه أول ما يسلك طريق العلم اسم هذا العلم الكبير، وما لتراثه من الأهمية البالغة، فيغوص في عمقه وهو لـمّا يتعلم السباحة على شاطئه بعد، فيؤذيه ذلك كثيرًا”([4]).
وهذا يصدق على قاعدة الشيخ هذه، فلا يتمّ الانتفاع بها إلا لمن له حظٌّ من دراسة الفقه والأصول، فقد أورد فيها فروعًا مختلفة من أبواب فقهية شتّى، وورد فيها جملة من المصطلحات الفقهية، كالحجامة والتشريط والفصد والمأمومة والجائفة، وأخرى أصولية، كالطرد، وإثبات العلة بمسلك المناسبة أو الدوران، أو الشّبه المطّرد.
هذا، وموضوع القاعدة في بيان المفطرات كما مرّ، وقد عقدها الشيخ إجمالًا في مقدمة وفصلين.
الفصل الأول: في المفطرات التي دلّ عليها النص والإجماع.
والفصل الثاني: في المفطرات المختلف في الفطر بها، وتخلّلَ ذلك مواضعُ استطرد فيها الشيخ، كما هي عادته.
وقد ذكر في الفصل الأول أصول المفطرات التي دلّ عليها النص والإجماع، وهي: الأكل والشرب، والجماع، والاستقاءة عمدًا، والحيض([5]).
وأما المختلف فيه منها: فجماع الناسي والمخطئ، واختار الشيخ أنه لا قضاء عليه، ولا كفارة([6]).
ثم ذكر في الفصل الثاني المفطرات المختلف فيها بين العلماء، وهي: الكحل، والحقنة، والتقطير في الإحليل، ومداواة المأمومة والجائفة، واختار الشيخ أن الصائم لا يفطر بشيء من ذلك([7])، واختار أيضًا حصول الفطر بالحجامة وما في معناها([8]) كما سيأتي.
رابعًا: منهج الشيخ في القاعدة.
يتبين للقارئ منهج الشيخ في هذه القاعدة من خلال النقاط التالية:
- العناية بذكر الأدلة النقلية والعقلية.
قال تلميذه البزَّار (ت:749): “ليس له مصنف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين، وتراه في جميع مؤلفاته إذا صح الحديث عنده يأخذ به، ويعمل بمقتضاه، ويقدمه على قول كل قائل من عالمٍ ومجتهد”([9]).
وفي هذه القاعدة البالغة صفحاتها تسعة وثلاثين صفحة في طبعة مجموع الفتاوى: خمس آيات، وقرابة أربعة وأربعين حديثًا وأثرًا، والنصّ على الإجماع في نحو أربعة مواضع أو تزيد، واستعمال دليل القياس بأنواعه: (قياس العلة بإبداء الجامع، أو بإلغاء الفارق، وهو الطرد والعكس) احتجاجًا (فيما يلحق بالحجامة مثلًا)، وقياس الشبه (قياس الكحل والحقنة على البخور والدهن لجامع ما يشتركان فيه من أنها ليست مما يتغذى به البدن، ويستحيل في المعدة دمًا)، ونقضًا (في عدم التفطير بالكحل والتقطير والحقنة)، وذكر بعض قوادح القياس كالمعارضة.
- جمع الأحاديث والآثار في المسألة، وذكر الأحاديث الأصول في الباب.
وهذا واضحٌ جدًّا في مسألتي الاستقاءة والحجامة، وقد قال الإمام أحمد (ت:241): “الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا”([10]).
ولـمّا نسب التفطير بالحجامة إلى أكثر فقهاء الحديث قال: “وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به؛ أخصُّ الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم”([11]).
- الاطراد في التقرير والاختيار والبناء على الأصول، قال الشيخ في مواضع من القاعدة، “وطرد هذا … كذا وكذا”([12]).
وقال مبيّنًا هذا في قاعدة شمول النصوص للأحكام: “الطرد هو قياس الجمع، والعكس هو الفرق، والجمع والفرق يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيُجمع بين ما جمع الله بينه، ويكون الجمع والفرق بالأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله، فهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسوله، كما أنزل الله الكتاب”([13]).
ونوّه الزركشي (ت: 794) بموضع “الجمع والفرق” في الفقه بقوله: “الثاني [من أنواع الفقه]: معرفة الجمع والفرق، وعليه جلُّ مناظراتِ السلف، حتى قال بعضهم: (الفقه جمعٌ وفرق)”([14]).
ومن الأصول التي يطردها الشيخ في الصوم وغيره كمحظورات الإحرام إلا الصيد: أن من فعل محظورًا مخطئًا أو ناسيًا لم يؤاخذ به، ويكون بمنزلة من لم يفعله، ولا يكون مبطلًا لعبادته([15]).
وكذا التضييق فيما يلحق بالأكل والشرب من المفطرات([16]).
- التوسّع في ذكر أوجه الترجيح، وهذا شأن أكابر الفقهاء، فالشيخ لـمّا رجّح عدم التفطير بالكحل والتقطير والحقنة ومداواة المأمومة والجائفة، أورد ستة أوجه تؤيد ما اختاره، وضمّنها أجوبة عن أقيسة المخالفين؛ لأنها أهم ما اعتمدوه([17]).
- بناء الأحكام على القواعد والأصول والمقاصد، فذكر الشيخ في أول القاعدة حقيقة الصيام، وأنه معروف قبل الإسلام، وقبل فرض رمضان([18])، وذكر في شرح العمدة أنه “خُصَّ في لسان الشرع والعرف الغالب ببعض أنواعه، وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع، ويتبع ذلك الإمساك عن الرّفث والجهل وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه”([19])، فكأنه يقول: إن الأصل ثبوت الصوم المعروف وصحته، فإذا شككنا في حصول الفطر بشيء فالأصل عدمه([20]).
وذكر قاعدة: إذا تعارض نصَّان؛ ناقلٌ وباقٍ على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ([21]).
وقاعدة: أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس([22]).
وقاعدة عموم البلوى: فذكر أن الأحكام التي تعمُّ بها البلوى، وتحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه([23]).
وقاعدة: الحكمة إذا كانت خفيةً أو منتشرةً عُلِّقَ الحكم بالمظنة([24]).
وقاعدة: ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع([25]).
وذكر أن الفرع قد يتجاذبه أصلان فيلحق منهما بما يشبهه في الصفات المعتبرة في الشرع([26]).
وأن العدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع([27]).
وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يصدق بعضًا([28]).
كما ظهر توسعه في تعليل الأحكام، فاختار الفطر بغير الحجامة كالشرط والفصد؛ لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في غيرها شرعً وعقلًا وطبعًا، وأما الحاجم فإن كان يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه فيفطر؛ تعليقًا للحكم بالمظنة، أما إن كان إخراج الدم بطريق آخر فلا يفطر([29])، والمذهب عند الحنابلة قصر الفطر على ما ورد به النص؛ لأن التفطير بها تعبديٌّ فلا يقاس عليه غيره عندهم([30]).
- ذكر الأشباه والنظائر الفقهية، وقد نقل السيوطي وغيره عن بعض العلماء قوله: “الفقه معرفة النظائر”([31]).
فالأشباه هي الفروع الفقهية التي أشبه بعضها بعضًا في الحكم، سواء كان لها شبه بأصول أخرى أضعف من شبهها بما أُلحقت به، أو لم يكن، وأما النظائر فهي: الفروع الفقهية التي يكون بينها أدنى شبه.
وقد حاولت عدَّ ما ذكره الشيخ من تلك المسائل فيما هو بسبيل تقريره في القاعدة، فزادت عن عشرين مسألة([32]).
- التقسيم لمسائل القاعدة، والبدء بإجمال ثم التفصيل، فمن التقاسيم التي ذكرها الشيخ:
تقسيم المفطرات إلى نوعين: ما ثبت بالنص والإجماع وما اختلف فيه([33]).
انقسام المفطرات إلى أمور اختيارية تحرم على الصائم؛ كالأكل، وغير اختيارية؛ كنزول الحيض، وبنى على هذا التقسيم انقسام عللها([34]).
تقسيم الخارج من بدن الصائم إلى نوعين: ما لا يقدر على الاحتراز منه، أو على وجه لا يضره فهذا لا يمنع منه، وما يقدر على الاحتراز منه كإخراج الدم، وذكر ما يلحق به([35]).
هذا مجمل مضمون القاعدة، ومنهج الشيخ فيها، ومما ينبه إليه في ختم هذه المقالة أن يحرص القارئ لتراث الشيخ على أمرين:
أولهما: حسن الانتخاب والاختيار، فتراث الشيخ كثيرٌ وواسعٌ ومتنوع.
والثاني: أن يبتدأ في قراءة ما ينتخبه بالرسائل والكتب الصغيرة كهذه القاعدة، ويكرر ما يقرأ حتى يرتاض بطريقة الشيخ وأسلوبه، فيعرف مقصود القاعدة أو الكتاب، ثم يحاول وضع خارطة جامعة لما يقرأ حتى يتصور موضوعاته، وكيف بيَّنها الشيخ، واستدلَّ عليها، فيدرك ما هو من صلب الموضوع، وما يكون من اللواحق والاستطرادات.
هذا ما تيسر بيانه، سائلًا المولى الكريم أن ينفع بما ذكرت، وأن يجعله بابًا للانتفاع بعلوم الشيخ، والحمد لله رب العالمين.
_______________________
المراجع:
- انظر مقدمة التحقيق ص10، ص16-20، وجميع الإحالات في المقال إلى هذه الطبعة.
- الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ص755.
- منهاج السنة النبوية 5/83.
- مقال: “عن ابن تيمية أتحدث” ضمن كتابه: ميراث الصمت والملكوت ص23.
- ص37، ص62، ص63.
- ص45، ص47.
- ص53.
- ص 79، ص80.
- منهاج السنة النبوية 5/83.
- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/212.
- ص68.
- ص46، ص47، ص68.
- جامع المسائل، المجموعة الثانية ص270-271.
- 1/69.
- ص45-46.
- انظر: ص53، ص55، ص61، ص62.
- ص35-65.
- ص37.
- 3/4.
- انظر: ص55.
- ص43، ص74.
- ص44، وبنحوه ص80.
- ص55، ص60.
- ص81.
- ص81.
- ص65.
- ص67.
- ص81.
- ص80-81.
- انظر: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 3/397-399.
- مقدمة كتابه الأشباه والنظائر ص8.
- انظر مثلًا ص56-60.
- ص37، ص53.
- ص65.
- ص67.