المقالات والبحوث

د. حنان العنزي ورسالة عن ابن تيمية

Picture of د.حنان بنت عبد العزيز العنزي

د.حنان بنت عبد العزيز العنزي

كاتب و باحث

photo_2025-06-22_17-12-01

لكلٍ قصته الخاصة مع ابن تيمية رحمه الله، وللدكتورة حنان العنزي قصة خاصة خاضتها أثناء كتابة رسالتها عن المقاصد العقدية في كتابات شيخ الإسلام، التي أجرينا معها هذا الحوار المطول لنقف معها على تفاصيل هذه الحكاية، وما الذي قد نستلهمه منها.

نترككم مع الحوار:

 

نبدأ بسؤالنا الأول: ما الدافع وراء اختيار الدكتورة حنان لابن تيمية موضوعًا لرسالتها؟ وكيف نشأت فكرة هذا البحث؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

إنّ اختياري لهذا الموضوع –المقاصد العقدية عند شيخ الإسلام ابن تيمية– هو أوّلًا وأخيرًا فضلٌ من الله تعالى وتوفيقٌ منه، أحمده عليه ولا أزال أحمده. فنحن طلابَ علم العقيدة نرتبط بشيخ الإسلام ارتباطًا وثيقًا؛ إذ تُعَدُّ كتبه، ولا سيما العقيدة الواسطية ونظائرها، منطلقًا أساسًا لنا في هذا الفن.

منذ مرحلة الماجستير وأنا أُولَع بالموضوعات التي تجمع بين الأصول والمقاصد من زاوية عقديّة تأصيليّة؛ وقد تردَّدتُ حينئذ بين عدد من القضايا لدى علماء الحنابلة، مثل «سدِّ الذرائع» في العقيدة ونحوها، لكن ظروف الأقسام الأكاديمية ورغبات المشرفين حالت دون ذلك.

خلال بحثي عن موضوع ملائم، لفت نظري مبحثٌ بعنوان «المقاصد العقدية» في أطروحة بجامعة أمّ القرى حول دلالة السياق وأثرها في مسائل الاعتقاد، أعدّها آنذاك الباحث -ثم الدكتور لاحقًا- فواز رضوان. استهواني ذلك المبحث، فاستأذنتُه في الاطلاع على رسالته، فزوّدني بها مشكورًا. ومن يومها ظلَّت فكرة «المقاصد العقدية» تتردّد في ذهني.

ومع أول يوم في مرحلة الدكتوراة عقدت العزم على هذا الموضوع، وعرضته على الأساتذة في القسم، فرحَّبوا به، لكنهم نصحوني بتضييق نطاقه؛ إمّا بحصره في كتاب، أو في شخصية. وكانت شخصية ابن تيمية حاضرة بقوّة، فقد وجدتُه أكثر من تناول المقاصد بروحٍ عقديةٍ أصيلة، مستظهرًا حِكَم التشريع وغاياته، رابطًا الأحكام بعللها، ومستنبِطًا المقاصد من نصوص الوحي.

وزادني حماسًا أمران: أوَّلهما أن كثيرًا من الكتابات في هذا الباب لا تنطلق من عقيدة أهل الحديث؛ وثانيهما محبّتي القديمة لكتب شيخ الإسلام، ورغبتي في قراءة تراثه العقدي كاملًا، وهو أمر عسير لولا أن ألزمتْني به هذه الرسالة.

هكذا ساقني السياق – بتوفيق الله – إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فأصبح محورًا لبحثٍ أرجو أن يسدّ فراغًا ويربط بين علم المقاصد وأصول الاعتقاد على منهج أهل السُّنّة والجماعة.

 

من خلال هذه الرحلة في تراث شيخ الإسلام رحمه الله، ما أبرز الكتب التي نالت إعجابك واستفدتِ منها بشكل خاص؟ خاصة أن إعداد هذه الرسالة ألزَمك بقراءة جانب كبير من تراثه، بل ربما أكثره، أليس كذلك؟

أما عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فالحقيقة أنها جميعًا ذات نفع وجمال، ولا يكاد المرء يطالع له كتابًا  -مهما صَغُر حجمه- إلا ويجد فيه فائدة ظاهرة. فتراثه متنوع؛ بين مؤلفات مطوّلة، وقواعد كبرى وصغرى، ورسائل قصيرة، وفتاوى، وأجوبة، بل حتى الرسائل الخاصة التي كتبها لتلامذته فيها من الفوائد الكثير.

على المستوى الشخصي، من أكثر ما أثّر فيّ المجلد العاشر من مجموع الفتاوى، وهو خاص بجانب السلوك وتزكية النفس. وقد وجدت فيه تأملاً عميقًا في علاقة العبد بربه، وأثر العقيدة في تهذيب النفس والسير إلى الله. وقد زادني ذلك قناعة بأن المتخصص في العقيدة لا يمكن أن يغفل عن الجوانب السلوكية، خاصةً وأن الانحراف في هذا الباب كان من أبرز ما شابَ بعض الطرق، كالصوفية وغيرها. وشيخ الإسلام وإن لم يُفرد لهذا الباب كثيرًا من المؤلفات، إلا أن إشاراته فيه بالغة النضج والوعي، رغم انشغاله الكبير بالردود وبيان البدع.

أما من حيث الفائدة العلمية، فقد استفدت من معظم كتبه، لكن من أكثرها قربًا إلى نفسي واستمتاعًا أثناء القراءة:

  • شرح العقيدة الأصفهانية: وهو من الكتب التي شعرت خلالها بعمق المتعة العلمية. فالكتاب في أصله رد على عقيدة كتبها أحد علماء الكلام، وطلب من شيخ الإسلام شرحها، فجاء الشرح تأصيليًا محكمًا. وبعض المتخصصين يرون أنه مدخل ممتاز لفهم درء تعارض العقل والنقل.
  • منهاج السنة النبوية: وقد بهرني بقوة الرد، وحُسن الاستدلال، وفنّ تفكيك الشبهات. تعلمت منه كثيرًا في الرد والمناظرة، وكان من أكثر كتبه أثرًا في تكويني في هذا الجانب.
  • كتاب الإيمان الأوسط: وهو من الكتب التي أفادتني في التأصيل لموضوع الإيمان، بتحليل أقوال المخالفين، ودراسة الأدلة بعمق.

أما عن سؤالك: هل ألزمتني الرسالة بقراءة جميع تراث شيخ الإسلام؟ فالجواب: لم يسعفني الوقت لقراءة كامل التراث، لكنني قرأت أغلب ما يتصل بـ العقيدة والأصول والتفسير، وقيّدت منها فوائد كثيرة. وكوني مبتعثة من الكويت، فقد كان لدي إطار زمني محدد لإنهاء الرسالة، مما جعلني أركز على هذه الجوانب الثلاثة بالذات.

وقراءتي لتراث ابن تيمية لم تكن مجرد مطالعة عابرة، بل قراءة وتمعن وتقييد. ولا زلت أحتفظ بهذه الفوائد، وأسأل الله أن ييسر لي إنشاء وسيلة معينة لنشرها، لعل الله أن ينفع بها غيري كما نفعني بها.

 

هل واجهتِ صعوبة في اختيار موضوع المقاصد العقدية بسبب تداخله مع أصول الفقه؟ وهل قيل لكِ إنه أبعد عن مجال العقيدة؟

نعم، أوافقك تمامًا فيما ذكرت، وهذا ما واجهته فعليًّا منذ بدايات العمل على هذه الرسالة. فالبدايات دائمًا ما تكون الأصعب، لا من جهة القراءة أو الجرد، فهذه المرحلة كانت ممتعة بالنسبة لي، كما يشبّهها الدكتور أحمد قوشتي حين يقول: “الباحث في هذه المرحلة كمن يتمشّى في بستان، يقطف من كل شجرة زهرة أو ثمرة”. لكن الصعوبة الحقيقية تبدأ حين ينتقل الباحث من الجمع إلى الكتابة، وهنا تبدأ التحديات الفعلية.

ومن أبرز ما واجهني من صعوبة، هو التداخل بين علم المقاصد وأصول الفقه، في حين أن تخصّصي الأساسي هو العقيدة. فرغم أنني درست أصول الفقه في المراحل العلمية، إلا أن صلتي به ليست بعمق صلتي بالعقيدة. وزاد من التحدي بعد العهد عن كتب المقاصد وطرائق تناولها.

ولهذا اضطررت أن أعود إلى كتب الأصول والمقاصد، وأغوص في مصادرها. وكان من توجيه مشرفي الدكتور توفيق طاس -حفظه الله- أن ألزمني بقراءة الموافقات” للشاطبي، وهو من الكتب العميقة في هذا الباب. وكنت في البداية مترددة، بل ضايقني الأمر بعض الشيء؛ لأن الشاطبي له أنفاس علمية تحتاج إلى إعادة قراءة وتأمل متكرر. ومع ذلك، التزمت بقراءته مرة ثم مرة أخرى، وإذا بي أجد فيه مفاتيح فهم عظيمة فتحت لي الطريق لفهم علم المقاصد بمنظور أوسع.

ولا أخفيكم أنني في بعض اللحظات كنت أشعر بشيء من الندم أو التردد؛ شعور يمرّ على كل باحث حين يُقبل على موضوع يرى أنه أكبر من إمكانياته. وكنت أقول لنفسي: “هل ارتقيتُ مرتقىً صعبًا؟ هل هذا الموضوع أكبر مما أحتمل؟”، خاصة حين يرى الإنسان حجم تراث العلماء ودقة هذا الباب.

لكن بتوفيق الله، ثم باستشارة أهل العلم والدعم المعنوي من الزميلات والمتخصصين، تجاوزت هذه المرحلة، ومضيت في مشوار الرسالة.

 

كيف تطوّرت نظرتكِ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية بعد بحثكِ العميق في تراثه، وهل اختلفت عن تصوّرك السابق له؟

كانت نظرتي لشيخ الإسلام ابن تيمية -قبل الرسالة- نظرة إعجاب وتقدير، بل وإجلالٍ كبير لهذا العالِم الجليل. فقد كنا، كطلبة علم، نرتبط بكتبه وننهل منها، لكننا -في الغالب- نطالع جانبًا واحدًا أو نقرأ له من أطراف إنتاجه، دون أن نغوص في أعماق تراثه.

أما بعد ملازمة كتبه سنواتٍ متواصلة، والاقتراب من شخصيته من خلال تراثه، فقد تكشّفت لي جوانب ما كنت أتصوّر وجودها بهذه القوة، وأثرَت فيَّ على المستوى العلمي والشخصي.

من أكثر ما أثّر فيَّ: أخلاقه مع المخالفين. كنت أظن، ككثيرين، أن شخصية شيخ الإسلام تتسم بالحدة والصرامة، فإذا بي أُفاجأ بدرجات مذهلة من الرفق والإنصاف والرحمة في تعامله مع من يختلف معه، بل حتى مع من يشتدّ في مخالفته له. وهذا غيّر كثيرًا من طريقة نظرتي للخلاف، وطريقة تعاملي مع المخالفين.

كذلك، تفاجأت -رغم معرفتي بمكانته العلمية- بعمق استدلاله، وقوة استحضاره للنصوص، وحسن ترتيبه للأدلة. كنت أقرأ أحيانًا وأتساءل: كيف خَطَر هذا التفصيل على باله؟ كيف استدعى هذا الدليل بهذه المناسبة الدقيقة؟ وكنت أتعجب كثيرًا حتى سمعت مقطعًا للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يقول فيه: “ما أُوتيَه شيخ الإسلام هو كرامة من الله عز وجل.”

حينها، فقط، فهمت سرّ هذا التفرّد، وأدركت أن الغوص في تراثه ليس مجرّد دراسة أكاديمية، بل هو صحبة علمية وإنسانية تُهذّب وتُعلّم وتُغيّر.

 

في نظركم، ما أبرز ما تميّز به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؟

لا يمكنك وضع سيرته في خانة واحدة؛ فهو شخصية مترامية الأطراف، تتوزع جوانب التميّز في حياته العلمية والسلوكية والروحية على نحو يندر أن يجتمع في غيره.

أول ما تأثرتُ به فعليًا، ولمسته أثناء إعداد الرسالة، كان أثناء كتابتي لترجمته قراءة المتأمل الملازم، لا مجرد الباحث المُلزم. وقد كانت تلك من أجمل مراحل العمل على الرسالة، حتى إني أطلت في كتابة الترجمة بدافع المتعة، لا الواجب، ولم أرغب بالخروج من تلك البساتين التي غرستها سيرته في قلبي، خاصة حين قرأت الجامع في سيرة شيخ الإسلام خلال سبعة قرون، الذي جمعه الدكتور علي العمران والأستاذ محمد عزير شمس رحمه الله. ولولا تنبيه مشرفي -جزاه الله خيرًا- إلى ضرورة الاختصار، لبقيت أكتب وأكتب.

أولًا: لتميّز العلمي.

برأيي، أبرز ما ميّز شيخ الإسلام من الناحية العلمية هو الموسوعية النادرة. فقد قرأت في تفسيره، فإذا بي أظنه مفسرًا لا غير، ثم في الأصول فأحسبه أصوليًا بامتياز، ثم في الفقه فيخيل إليّ أنه لا يعرف سواه! هذه القدرة العجيبة على التبحّر في كل علم، مع ضبطه وضبط مسائله واستحضار مصادره، لا تُفسَّر بمنطق بشريّ بحت، وقد صدق من قال إنها كرامة من الله عز وجل.

ومن أعجب ما وقفت عليه، شهادة أحد تلاميذه في محنته بمصر، حين سُجن وقُطِع عن كتبه، فصنّف عددًا من الكتب -صغارًا وكبارًا- واستحضر الأحاديث والآثار، وأقوال العلماء، وأسماء الكتب وأماكنها، كل ذلك من محفوظاته، دون مرجع أو مصدر، وقد رُوجعت تلك النقول فلم يُرَ فيها خلل!

ومن أبرز سماته العلمية أيضًا النظرة الكلية المقاصدية للشريعة، إذ لم يكن فقيه مسائل جزئية، بل كان يستحضر روح التشريع وغايته، ومصدره الواحد: وحي الله سبحانه، فكانت نظرته جامعة دقيقة، زادها الاتساق المعرفي رسوخًا. منهجه ثابت، منطلقاته راسخة، لا تناقض فيها ولا اضطراب، حتى تحدّى أن يؤتى بكلمة في العقيدة الواسطية تخالف ما عليه سلف الأمة.

ثانيًا: التميّز الأخلاقي.

من أكثر الجوانب التي أثرت فيَّ: تعامله مع المخالفين. كنت أظنه شديدًا في ردوده، فإذا بي أُفاجأ بدرجات عالية من الرحمة والإنصاف، بل والثناء على من يخالفه حين يرى له حسنات أو جهودًا تُحمد.

ومن الشواهد العجيبة ما ذكره في درء تعارض العقل والنقل عن بعض الأشاعرة، كأبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، عليهم رحمة الله، إذ قال عنهم: “ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخير الأمور أوسطها، وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين. والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}”.

فهذا العدل في الخلاف ونقاء القلب تجاه الخصم قلّ أن يُرى في هذا الزمان.

ثالثًا: التميّز التعبّدي.

أما ما لا يقل جمالًا عن علمه وأخلاقه، فهو تعبده وورعه. شيخ الإسلام لم يكن مجرد عالِم، بل عالم عابد، جمع بين قوة الحُجّة وخشوع القلب، بين غزارة العلم وصدق اللجوء. وقد وصفه تلميذه البزار حينما ترجم له في كتابه الأعلام العليّة: “أما تعبده -رضي الله عنه- فإنه قل أن سمع بمثله؛ لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل ولا من مال. وكان في ليله متفردًا عن الناس كلهم، خاليا بربه عز وجل، ضارعا، مواظبا على تلاوة القرآن العظيم، مكررا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر، يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم، وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنة ويسرة”.

وقد ذكر ابن القيم -وهو من أقرب الناس إليه- شيئًا من ذلك عنه فقال: “وشهدت شيخ الإسلام إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجوء إليه واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ”.

 

هل واجهتِ صعوبات أثناء إعداد الرسالة في التعامل مع نصوص شيخ الإسلام أو في منهجية البحث؟ وما أبرز التحديات التي اعترضتكِ؟

نعم، كما ذكرتُ سابقًا، كان موضوع المقاصد العقدية من الموضوعات المتينة التي لا يمكن وصفها بالصعوبة المجردة، بقدر ما تحتاج إلى جهد مضاعف، وتأمل عميق، واستعداد علمي متأنٍ. فهو موضوع جديد في سياقه العقدي، وإن لم يكن جديدًا من حيث مضمونه؛ فالمقاصد حاضرة في الشريعة منذ بعث الله رسوله ﷺ، لكنها لم تُبرز وتُجمع وتُدرس من زاوية العقيدة بهذا الشكل إلا مؤخرًا.

وقد واجهتُ في هذا المسار عددًا من التحديات، لعل أبرزها:

أولًا: الطبيعة المشتركة للموضوع بين الأصول والعقيدة.

المقاصد ترتبط في الأذهان بعلم أصول الفقه، لا بالعقيدة، وهو ما جعل كثيرًا من الأقسام العلمية تتحفّظ على طرح الموضوع أو تناقشه بحذر. بل إن بعض المباحث التي كتبتُها اضطررت لحذفها. وكان هذا من أصعب ما واجهته؛ لأن مجال العقيدة دقيقٌ وحساسٌ جدًا، ولا يُستساغ فيه الخوض بما لم يُضبط أو يُحرر.

ثانيًا: الاضطرار للعودة إلى كتب الأصول والمقاصد.

اضطررت أن أقرأ في كتب الأصول -وهي ليست باليسيرة- لأكوِّن أرضية متينة أنطلق منها، كما رجعت إلى كتب المقاصد، وعلى رأسها الموافقات” للشاطبي، والذي ألزمني بقراءته مشرفي الدكتور توفيق طاس جزاه الله خيرًا.
ولم يكن الأمر سهلًا، بل شعرت في البداية بالضيق والتردد، فالشاطبي يحتاج إلى قراءة متأنية، بل متكررة، لكنه فتح لي أبوابًا لفهم المقاصد بمنظور عميق ومركّب، فكان من فضل الله أن تحوّلت هذه الصعوبة إلى مدخل مبارك للموضوع.

ثالثًا: منهجية شيخ الإسلام الكتابية.

من التحديات الكبيرة التي واجهتني: منهجية شيخ الإسلام ابن تيمية في الكتابة. فهو لا يكتب بطريقة مرتبة واضحة كما في مؤلفات تلميذه ابن القيم، بل يغلب على كتاباته الاستطراد، وطول النفس، والغوص في تفاصيل دقيقة. وهذا، رغم فائدته، يرهق الباحث؛ لأنه لا يمكن اقتطاع نص أو نقل عبارة دون قراءة ما قبلها وما بعدها.
بل ووقفت على أمثلة لأخطاء وقع فيها بعض الباحثين، حين نسبوا أقوالًا لشيخ الإسلام وهي في الحقيقة نقولات من كلام المخالفين داخل كتبه، كابن رشد أو الرازي، نقلها شيخ الإسلام بغرض الرد، لا التقرير.

رابعًا: القراءة المنهجية المركزة.

كتب ابن تيمية لا تُقرأ قراءة سريعة أو انتقائية، بل تحتاج إلى تركيز، وتحديد واضح لهدف القراءة. وهذا كان تحديًا بحد ذاته، فبين ضخامة المادة، وتشعّب الأفكار، وطبيعة البحث العلمي، لا بد أن يضبط الباحث خطواته بدقة.

خامسًا: الشعور بالهيبة وقلة البضاعة.

وهو شعور طبيعي يمر به كل باحث صادق، وقد مررتُ بلحظات فكرت فيها بتغيير الموضوع، أو التراجع.

لكن في خضم هذا الشعور، وبينما أقرأ في اقتضاء الصراط المستقيم، وقعت عيني على عبارة لشيخ الإسلام وكأنها كُتبت لي، يقول: “فمبدأ الأمور من الله، وتمامها على الله.”

فعلّقتها أمامي، وأصبحت أقرؤها كلما شعرت بالثقل أو التردد. كانت رسالة خاصة، من ابن تيمية -رحمه الله- إلى الباحثين من بعده، تقول لهم: امضوا، فإن الله الذي وفقكم للبداية، سيتولى عنكم التمام.

وبفضل الله، تجاوزت الصعوبات، وتمّت الرسالة، بل وطُبعت، وسُجّلت كتابًا صوتيًا أيضًا. وما ذلك إلا من تيسير الله وتوفيقه، واستمداد العون منه، ثم بدعم المشرف والأساتذة الذين بذلوا لي النصيحة والدعم.

 

هل ترين أن رسالتكِ استوعبت جوانب المقاصد العقدية، أم أنها كانت مجرد بداية لمسار بحثي يحتاج إلى استكمال؟

لا، بالطبع لا أزعم أنني قد استوعبت علم المقاصد العقدية بالكامل، فهذا علم واسع، ومتشعب، ولا يزال بحاجة إلى جهد بحثي كبير لجمعه وتأصيله وتطبيقه، خصوصًا في سياقه العقدي.

حتى في عنوان الرسالة نفسه، فإن العنوان المثبت في القسم -وليس على غلاف الكتاب- هو:
المقاصد العقدية عند شيخ الإسلام ابن تيمية: دراسة تأصيلية تطبيقية، وهو عنوان يُعبّر بصدق عن طبيعة الرسالة: جزء تأصيلي، وجزء تطبيقي.

أولًا: الجانب التأصيلي.

خصصت له الباب الأول من الرسالة، وحرصت فيه على أن أجيب عن أسئلة أساسية قبل الدخول إلى صلب المقاصد، مثل:

  • ما المقصود بالمقاصد العقدية؟
  • ما أهميتها في العلم؟
  • ما منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تناولها؟
  • ما مصادرها لديه؟
  • وكيف يُمكن استنباطها؟

اعتمدت في هذا الجانب على كتب شيخ الإسلام نفسه، واستفدت كذلك من كتب أصول الفقه، وكتب علم المقاصد الشريعة.

ثانيًا: الجانب التطبيقي.

أما في الباب الثاني، فقد انتقلت إلى دراسة المقاصد العقدية كما تظهر في تراث ابن تيمية، وواجهت هنا سعةً هائلة في المادة، إذ إن الشريعة لا يخلو بابٌ فيها من مقصد، والمقاصد في أبواب الاعتقاد كثيرة جدًا.

ولهذا قسّمتها إلى قسمين:

  • المقاصد الأصلية: وهي أصول الإيمان الستة (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره).
  • المقاصد التبعية: وهي كثيرة جدًّا، لكنني انتقيت منها أربعة فقط، بناءً على أهميتها، وكثرة تناول شيخ الإسلام لها، وهي:
    1. مقصد مخالفة المشركين
    2. مقصد بيان الشريعة وظهورها
    3. مقصد حفظ الجماعة ونبذ الفرقة
    4. مقصد تزكية النفوس وتثميرها

وقد اكتفيت بهذه المقاصد التبعية، لأن طبيعة الرسالة وحدودها الزمانية لا تسمح بتوسيع أكثر من ذلك.

وبكل صدق، أقول: ما زال باب المقاصد العقدية -خصوصًا عند شيخ الإسلام ابن تيمية- بحاجة إلى مزيد من البحث والتأمل والتتبع، سواء على مستوى التأصيل، أو على مستوى استخراج المقاصد من تراثه الضخم، أو حتى على مستوى المقارنة بينها وبين ما كُتب في مقاصد الشريعة في أبواب الفقه.

فالرسالة لم تكن محطة ختام، وإنما هي خطوة أولى في طريق طويل، أسأل الله أن يوفّق من يأتي بعدي لإتمامه وتوسيع دوائره.

 

ما أعظم فائدة خرجتِ بها شخصيًا وعلميًا من رحلتكِ في تراث ابن تيمية؟ وما الأثر العميق الذي تركه فيكِ هذا البحث؟

الفوائد التي خرجت بها من قراءة تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن كتابة هذه الرسالة، كثيرة جدًا، لكن إن أردتُ أن أُجمِلها وأُسلّط الضوء على أعظم ما بقي أثره في نفسي، فإني ألخّصه في نقطتين مركزيتين:

أولًا: أن تكون صاحب رسالة.

وقد تعلّمتُ هذا المعنى من شيخ الإسلام نفسه، لا من كلماته فقط، بل من سيرته كلها. ابن تيمية لم يكن مجرد باحث أو معلّم، بل كان صاحب هدفٍ واضحٍ ورسالةٍ عميقة عاش من أجلها، ونافح وجاهد حتى آخر لحظة في حياته. ولو أردنا أن نُلخّص رسالته الكبرى، فإنها كانت:

ردُّ الناس إلى ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.

هذا هو المحور الذي دارت حوله كتبه، ونشاطه العلمي، وجهوده الإصلاحية. في زمانه، كانت البدع قد تفشّت، وساد الفكر الكلامي والتصوف المنحرف، وقلّ من يُمثّل المنهج النبوي الصافي في البلاد التي عاش فيها. لكن ابن تيمية آمن برسالته، وسموّ هدفه، فعاش لها، وضحّى من أجلها، حتى ترك الزواج والذرية، لأن مشروعه في نظره كان أعظم وأبقى.

ثانيًا: تنمية مَلَكة الاستنباط والتحليل.

وجدتُ في قراءة كتب شيخ الإسلام أثرًا واضحًا في تقوية مَلَكة الاستنباط والنظر الفقهي والترجيح بين الأدلة. طريقة ابن تيمية في التعامل مع النصوص ليست مجرد جمعٍ للأدلة، بل هي قراءة فاحصة، وتحليل دقيق، ونظر شُمولي يربط المعاني ببعضها، ويزن الأقوال بموازين شرعية منضبطة. فلو لم أخرج من هذه الرحلة الطويلة إلا بهذه المَلَكة العلمية -التي تتطلب سنوات ليكتسبها الباحث- لكفى بها فائدة.

 

هل ترين أن تراث ابن تيمية ما زال يحمل مساحات لم تُبحث بعد؟ وإن كان كذلك، فما نصيحتك لمن يريد أن يكتب فيه، وأين يبدأ؟

أول ما أحب أن أنبه عليه: أن الكتابة في تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ليست حكرًا على الأكاديميين، ولا على من يحملون شهادات عليا، بل كل طالب علم جاد يمكنه أن يسهم في هذا الباب، وقد رأينا من غير الأكاديميين من كانت كتاباتهم وتحقيقاتهم متميزة وعميقة.

أما عن السؤال: هل أُشبِع تراث ابن تيمية بحثًا؟

فالجواب: صحيح أن هناك عددًا كبيرًا من الرسائل والدراسات التي تناولت جوانب من تراثه، وقد ينُنتقد أحيانًا بأننا لا نكتب إلا عن ابن تيمية، لكن في الحقيقة هو يستحق هذا الكم وأكثر. والرسائل تتفاوت في جودتها وتميّزها، ولكن من يقرأ تراث ابن تيمية قراءة جادة يدرك أن فيه متسعًا كبيرًا للبحث والخدمة، لا سيما إذا بدأ الباحث بجرد كتبه بنفسه، فسيُفاجأ بكمٍّ هائل من المسائل التي ما زالت بكرًا، أو لم تُتناول إلا من زوايا محدودة.

وهذه ثلاثة مداخل أقترحها للباحثين الجدد في تراث ابن تيمية:

التفصيل في المقاصد العقدية.

مثلاً في رسالتي عن “المقاصد العقدية”، حاولت جمع أبرز المقاصد من كتب شيخ الإسلام، وقمت باستقراء واسع، حتى بلغ ملف الجمع عندي ما يقارب ألف صفحة من النقول الصريحة. لكن الرسالة الأكاديمية لها حدود، فاضطررت للاختصار الشديد. ولهذا فإن كل مقصد من هذه المقاصد -كتنزيه الله، أو تزكية النفوس، أو حفظ الجماعة- يستحق بحثًا مستقلًا، يجمع مادته، ويحللها، ويربطها بسياقاتها.

الرد على الانحرافات الحديثة في فهم المقاصد.

اليوم نشهد انحرافات كثيرة في تناول علم المقاصد، سواء في المجال العقدي أو الفقهي، وكثير منها تُرتَكب باسم “تنزيه الله” أو “مقصد التيسير”، لكنها تُفضي إلى التعطيل أو التأويل الباطل أو حتى التشكيك في نصوص الشرع.
وتراث ابن تيمية غنيٌّ جدًا في بيان هذه الانحرافات والرد عليها، سواء على المتكلمين أو الصوفية أو أهل البدع، وهذا باب واسع جدًا، يحتاج إلى إعادة فتحه بلغة العصر.

إعادة البحث في الموضوعات القديمة بروح جديدة.

حتى الموضوعات التي كُتِب فيها سابقًا، لا بأس أن تُعاد دراستها بمنهجية مختلفة، أو تُربط بقضايا معاصرة، أو يُستخرج منها بعدٌ لم يكن واضحًا من قبل. فتراث ابن تيمية ليس مجرد معلومات، بل هو منهج تفكير وتأصيل وتحليل ونظر مقاصدي شامل، وهذا ما يجعله دائمًا حيًّا ومتجددًا.

والخلاصة من أراد أن يكتب في تراث شيخ الإسلام، فليبدأ من حيث استوقفه العجب أثناء القراءة، أو حيث وجد فراغًا في المعالجة، أو حيث استشعر حاجة الأمة إليه.

وأسأل الله التوفيق لكل باحث ناصح، وجادٍّ في طلب الحق، ومُخلص في خدمته لهذا التراث العظيم.

 

برأيكم، لمن أراد أن يكتب عن ابن تيمية وتراثه، سواء في بحث أكاديمي أو دراسة حرة، من أين يبدأ؟ وما الذي تنصحونه به في خطواته الأولى؟

لا يخفى أن مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرةُ الأنواع، منها المختصر ومنها المطوَّل، ولكلٍّ منها دوره في خدمة الباحث. فالمختصرات تُعَدُّ مدخلًا إلى خلاصة فكر الشيخ، في حين تَبْسُط المطوَّلاتُ القولَ فتُفصِّل الأدلّة، وتعرض أقوال المخالفين، وتردّ عليها باستطراداتٍ نافعةٍ مقصودة. ومن أراد أن يُقرِّر مذهب ابن تيمية على وجهٍ صحيحٍ فلا يكفيه أن ينتزع عبارةً من موضعٍ واحد؛ بل لا بدّ أن يجمع كلامه في المسألة من جميع كتبه، فيردّ ما تشابه إلى ما استُبين، ويَزن السياق الذي قيلت فيه العبارة، أكان مناظرةً مع فلاسفة، أم مخاطبةً لمناطقة، أم تقريرًا لمذهب أهل السُّنّة.

على هذا الأساس، يُوصى الباحث بالخطوات الآتية:

أولًا: الشروع بالمختصرات، يضبط مسائلها، ويستوعب مقاصدها العامّة، ثم ينتقل إلى المطوَّلات ليستكمل ما أجملته المختصراتُ ويفهم مراد الشيخ على وجهٍ أتمّ.

ثانيًا: امتلاك أدوات علوم الآلة، فشيخ الإسلام يَكْثُر في ردوده من اصطلاحات المتكلّمين والمنطقيين، وقد يَحْمل الاصطلاحُ معنًى في مقامٍ، ومعنًى آخر في مقامٍ مختلف؛ ولا يُدرك ذلك إلا متمرِّسٌ بأهل الفنون.

ثالثًا: الاستعانة بابن القيّم، فإنّ تلميذه الأقرب رتّب أفكار شيخه وبوّبها، حتى أن للشيخ عبد الرزّاق عفيفي تشبيه جميل، فشيخ الإسلام يهدم جدار الباطل دفعةً واحدة، أما ابن القيّم فيُفكِّكه حجرًا حجرًا. فقراءة كتب ابن القيّم تُعين على تبيّن مقاصد ابن تيمية.

رابعًا: الرجوع إلى الدراسات المميَّزة، فينتقي الباحث من الرسائل الجامعية والدراسات المحكمة ما نضج أسلوبًا، ورسخ تأصيلًا؛ كرسالة منهج ابن تيمية المعرفي للدكتور عبد الله الدعجاني، أو غيرها مما يُناقَش في «نادي التراث التيمي». هذا يُوفّر عليه جهدًا، ويهديه إلى مواضع المسائل.

خامسًا: توفر ملكة البحث العلمي، ولا يتحقق ذلك إلا بالتأصيل الراسخ، سواء تعلّمه الباحث في المسار الأكاديمي أو حصّله خارج الإطار الرسمي؛ فالمهمُّ امتلاك أدوات النقد، والدراية بمناهج التوثيق، والصبر على الاستقراء.

ومن جمع هذه الشروط -مع إخلاص النيّة- فلن يعترضه بإذن الله شيء عن الإسهام في خدمة تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، ذلك التراث الذي لا يزال رحبًا للدارسين، غنيًّا بالمسائل التي تنتظر مَنْ يُفصّلها ويُجلّيها.


ما أهم الأدوات العلمية والمهارات التي يحتاجها الباحث لفهم تراث ابن تيمية والتعامل معه بدقة؟

من أراد أن يدخل عالم شيخ الإسلام ابن تيمية فليس يكفيه الحماس ولا الرغبة، بل لا بد أن يُعدّ نفسه إعدادًا جادًا، ويُجهّز أدواته العلمية والمنهجية. ويمكن أن نلخّص أهم هذه الأدوات في النقاط الآتية:

الصبر والتأني.

أول ما يجب أن يتحلى به الباحث هو الصبر، وعدم التسرّع في نسبة الأقوال أو تقرير المسائل. فبعض الكتب تحتاج إلى أن تُقرأ أكثر من مرة، وبعض المسائل لا يظهر وجهها من أول مطالعة. فلابد من التكرار، والتدرّج، وعدم استعجال الفهم أو النتائج.

القدرة على الربط بين الكليّات والجزئيات.

شيخ الإسلام يمتلك منطلقات وأصولًا كليّة، ويبني عليها فروعًا جزئية متفرقة في مواضع متعددة. ولذلك من أدوات الفهم الصحيح: أن يكون لدى الباحث قدرة على الربط بين المتناثر والمتصل، وبين الجزئي والكلي، ليُدرك نظرية ابن تيمية في باب معين أو في مسألة دقيقة.

التركيز العالي.

كتب ابن تيمية لا تُقرأ على عجَل، ولا تُفهم بقراءة سطحية. بل تحتاج إلى تركيز ذهني شديد، خاصة في كتبه الكبيرة كـ درء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية، وغيرها، وخصوصًا في المسائل الدقيقة كمسائل القدر أو النفي والإثبات.

القدرة على التحليل وجمع النظائر.

منهج ابن تيمية في كتاباته يجعل الباحث أمام مهمة تتطلب:

  • جمع المتفرقات من أقواله في المواضع المختلفة.
  • تحليل السياقات التي ورد فيها الكلام.
  • التمييز بين التقرير والردّ.

فكثيرًا ما يُوجز في موضع، ويبسط في آخر، ويقول: “وقد بسطتُ هذا في موضع آخر”، دون أن يذكر الإحالة، فلا بد للباحث أن يتتبع ويُركّب ويجمع حتى يصل إلى تصوّر صحيح للمسألة.

الرصيد المعرفي في التخصص.

لا يُمكن دخول تراث شيخ الإسلام من غير خلفية علمية متينة، خاصةً في التخصص الذي يُراد الكتابة فيه.
فمن يكتب في العقيدة مثلًا، لا بد أن يكون متمكنًا من مباحثها الأساسية، مدركًا لمفرداتها، عارفًا بأصولها واختلاف مذاهبها.

التمكن من علوم الآلة

وهذا لا يُغفل، لأن ابن تيمية يستعمل مصطلحات أهل الفنون، سواء في الرد عليهم أو في نقل مذاهبهم، وقد يكون للمصطلح أكثر من دلالة بحسب السياق. ولذلك لا بد من درجة من المعرفة بعلم المنطق، وأصول الفقه، ومناهج المتكلمين، لفهم كلامه واستيعاب مراده بدقة.

هذه الأدوات هي بمثابة مفاتيح للدخول إلى هذا البحر العظيم، ومن جمعها -ولو تدريجيًّا- وقرنها بالإخلاص، فسيجد في تراث شيخ الإسلام ما يعلّمه الصدق، ويهذّب له الفهم، ويقوّي فيه الحُجّة.

 

نختم هذا اللقاء بسؤالين:

  • السؤال الأول: ما وصيتكِ للباحثين والباحثات الراغبين في الكتابة في تراث شيخ الإسلام ابن تيمية؟
    هل من توجيه تحبّين أن تختتمي به هذا اللقاء؟
  • والسؤال الثاني: هل طُبعت رسالتكِ العلمية؟

أما وصيتي للباحثين في تراث ابن تيمية: فأوصي كل باحث، وكل باحثة، ممن أرادوا الدخول إلى عالم شيخ الإسلام ابن تيمية أن يستحضروا الإخلاص لله سبحانه وتعالى في هذا الطريق، فإن هذا العلم الذي نُقبِل عليه، وهذه الكتب التي نُفتش فيها، ما هي إلا وسيلة لنصرة دين الله، وخدمة تراث رجل بذل عمره وجهاده في سبيل الشريعة.

ومن أعظم ما يُفتَح به هذا الباب استمطار الفتح من الله، وسؤال التوفيق منه، فإن العلم رزق، بل هو من أعظم الأرزاق، لا يُعطاه أحدٌ إلا بفضل الله، وصدق النية، وشدة الافتقار. كم من مرة استغلقت عليّ المسائل، وجفَّ القلم، وانسدَّ الطريق، فلم أجد مفتاحًا أيسر ولا أصدق من أن أنصرف إلى الله وحده، أضع سجادتي، وأرفع يديّ، وأسأله الفتح.

فوصيتي لكل باحث أن يسأل الله الفتح، ويسأله البركة، ويسأله أن يُبلّغه علمًا نافعًا، وعملًا مباركًا، ويجعل هذا التراث سببًا للهداية، لا للفخر أو الشهرة أو التصدّر.

أما عن طباعة الرسالة فبفضل الله تعالى، طُبعت الرسالة بعنوان: “المقاصد العقدية عند شيخ الإسلام ابن تيمية: دراسة تأصيلية تطبيقية”، وذلك عن مركز تأصيل للدراسات والبحوث بجدة، وصدرت الطبعة الأولى سنة 1446هـ، وتوفرت في معرض الرياض الدولي للكتاب الماضي.

ولمن لا يتيسّر له اقتناؤها:

فالرسالة -ولله الحمد- متوفرة أيضًا بصيغة كتاب صوتي على قناة مركز تأصيل في اليوتيوب، في مقطعين: الجزء الأول والجزء الثاني، ليسهل على من لا يملك وقتًا للقراءة أن يستمع وينتفع، وأسأل الله أن يبارك فيها وينفع بها.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

البريد الإلكتروني

[email protected]

موقعنا يستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك أثناء التصفح