قاعدة في توحيد الإلهية
فيوض الاستطراد !
لا تخطئ عين القارئ لتراثنا العربي والإسلامي ذلك التفاوت والتباين الجلي في طرائق العلماء والمؤلفين وأساليبهم حين يكتبون، والذي تعود أسبابه لعوامل عدة، يرجع بعضها إلى شخصية المؤلف نفسه وطبيعة عقله وتفكيره، ويرجع بعضها الآخر إلى تكوينه العلمي وحصيلته المعرفية، وبات من المحتم على من يقرأ لمؤلٍّف ما أن يستجلي طريقته ويعرف منهجه ويتلمس أساليبه حتى يتمكن من فهمه فهما دقيقا.
ومن يزاول مؤلفات ابن تيمية يجد إحدى السمات البارزة في منهجه سمة الاستطراد، فتجده يتكلم في مسألة معينة ثم يخرج ويتوسَّعُ فيما يحتاجه للتأصيلِ عليه، وينبِّه لما تتمُّ فائدة الكلام به، ويُقوِّي أوجه الاستدلال، فيبسُط في معنى مفردة لغةً أو اصطلاحًا، أو يفصِّل في أصل مقالةٍ كلامية، فيَحكي أصولَها في المِلل الأخرى، وأوَّل مَن قال بها، ومحيط قائلها ودعاوي قولها، وقد يَحكي عن حال قائلها من دِين ودُنيا، وينقِّب عن جذورِها العقديَّة، ويرجع بعد ذلك لأصل موضوعه الذي بدأه، وما لم يكن القارئ منتبها لذلك ربما عسر عليه معرفة ما الذي يريده المؤلف وما صلته بأصل الكلام.
يحكي تلميذ ابن تيمية الإمام البزار في كتابه عن شيخه (الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية) أن هذا كان واقع دروس الشيخ رحمه الله التي يلقيها وليست سمة في كتاباته فقط، إذ يقول واصفاً دروسه: (ثمَّ يشرع فَيفتح الله عَلَيْهِ إِيرَاد عُلُوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيَات وَأَحَادِيث وأقوال الْعلمَاء، وَنصر بَعْضهَا وَتبيين صِحَّته، أَو تزييف بَعْضهَا وإيضاح حجَّته، واستشهاد بأشعار الْعَرَب وَرُبمَا ذكر اسْم ناظمها. وَهُوَ مَعَ ذَلِك يجْرِي كَمَا يجْرِي السَّيْل، وَيفِيض كَمَا يفِيض الْبَحْر، وَيصير مُنْذُ يتَكَلَّم إِلَى أَن يفرغ كالغائب عَن الْحَاضِرين، مغمضا عَيْنَيْهِ، وَذَلِكَ كُله مَعَ عدم فكر فِيهِ وروية، من غير تعجرف وَلَا توقف وَلَا لحن، بل فيض إلهي حَتَّى يبهر كل سامع وناظر، فَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يصمت. وَكنت أراه حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قد صَار بِحَضْرَة من يشْغلهُ عَن غَيره، وَيَقَع عَلَيْهِ إِذْ ذَاك من المهابة مَا يرعد الْقُلُوب ويحير الْأَبْصَار والعقول).
في حين نظر بعض الباحثين إلى الاستطراد على أنه نقص وعيب في التصنيف، فهو يشتت القارئ ويصعب عليه فهم الموضوع المراد، ويقطع طريقه في الوصول إلى الفكرة الرئيسة.
وفي عبارة آسرة، يصف ابن القيم هذا المنهج عند شيخه ابن تيمية ويعدُّه من الجود بالعلم، فيقول في كتابه (مدارج السالكين): (ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في ذلك أمرا عجيبا، كان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة، إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته؛ فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه – رحمه الله – بين الناس؛ فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك).
